الدولة المدنية والدولة الإسلامية: توافق أم تناقض؟
من أبرز مبادئ الدولة المدنية، مبدأ المواطنة، الذي يعني أن الفرد لا يُعرف وفقًا لدينه أو مهنته أو إقليمه أو ثروته أو سلطته، بل يُعرَّف قانونيًا واجتماعيًا كـ"مواطن"، أي عضو في المجتمع يتمتع بحقوق وعليه واجبات، ويتساوى مع بقية المواطنين في هذه الحقوق والواجبات. كما تعتمد الدولة المدنية على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح، وقبول الآخر، والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل. وهذه القيم تُشكّل ما يُسمى بالثقافة المدنية، وهي ثقافة مبنية على الاتفاق، وتحدد حدًا أدنى من القواعد يُعتبر خطًا أحمر يجب احترامه.
مبدأ آخر مهم هو الديمقراطية، التي تمنع الاستيلاء على الدولة من قبل فرد أو نخبة أو عائلة أو طبقة أرستقراطية أو أيديولوجية معينة.
من أسس الدولة المدنية أيضًا أنها لا تقوم على خلط الدين بالسياسة. فالدولة المدنية لا تعادي الدين أو ترفضه، بل ترفض استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، وذلك لأن مثل هذا الاستخدام يتناقض مع مبدأ التعددية الذي تشجع عليه الدولة المدنية. كما أن هذا الأمر قد يفضي إلى تحويل الدين من مجال مقدس إلى مجال نزاعات سياسية ومصالح دنيوية ضيقة.
بالنسبة للإسلام، وبناءً على التوجهات العامة في القرآن والسنة وكتابات علماء الإسلام، نجد أن العديد من هذه المبادئ تتوافق مع رؤية الإسلام للدولة.
مع ذلك، يرفض بعض الإسلاميين القبول بمفهوم الدولة المدنية بناءً على أن الأساس التشريعي في الدولة المدنية يعتمد على إرادة الأغلبية وآراء الناس في إصدار التشريعات واختيار الحاكم. ويرون أن ذلك قد يؤدي إلى تقنين ما يعتبرونه شذوذًا، مثل الأنظمة الاقتصادية القائمة على الربا أو الإباحة لبعض المحرمات. كما يرفضون أن تكون الدولة مدنية لأنهم يعتقدون أن مصدر الحق يجب أن يكون إلهيًا وليس بشريًا.
من جهة أخرى، تُعتبر الدولة المدنية دولة يحكمها الدستور (أو العقد الاجتماعي)، حيث يُحدد فيه التوازن بين السلطات وكيفية تداول السلطة. في هذه الدولة، تُعتبر الأمة مصدر السلطات التنفيذية والتشريعية، حيث يهيمن القانون على مكونات الدولة، وتُفوض السلطة بشكل مقيد من المجتمع لمصلحة الوطن والمواطنين.
الاختلاف بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية قد يكمن في استخدام المصطلحات. غالبًا ما يرتبط مصطلح "الدولة الإسلامية" بالاعتماد على الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع، مما يثير بعض الإشكاليات. لكن في الواقع، بناء الدولة هو مسألة سياسية وليست بالضرورة متعلقة بنظام قانوني محدد، بل هي نتيجة لتطبيق مبادئ الدولة ومؤسساتها في أي مجتمع.
إذا نظرنا إلى الأنظمة السياسية الحديثة التي تضم مواطنين من ديانات مختلفة، فإن النظام القانوني قد يتنوع تبعًا لتمثيل المسلمين في الأجهزة التشريعية. وقد يتغير التشريع في الدولة وفقًا للحجم السياسي للجماعة المسلمة. ومن الطبيعي أن يعبر ممثلو الأمة عن قيم المجتمع وتوجهاته الفكرية والسياسية.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن مرجعية القوانين في مجتمع مسلم قد تستند إلى الشريعة، دون أن يمنع ذلك من تحول هذه القوانين إلى قوانين مدنية من خلال الآلية الديمقراطية. فالشريعة تُعدّ أحكامًا دينية فردية ملزمة للمؤمن، بينما القانون هو نظام بشري ملزم دنيويًا، وفقًا لطبيعة الدولة التي تمارس السلطة بتفويض من المجتمع.
كما أن القانون كان دائمًا مزيجًا من الأحكام الدينية أو الأخلاقية أو الأعراف الاجتماعية التي تطورت مع الزمن لتصبح قوانين حاكمة من خلال الفعل السياسي. وبدلاً من أن يكون هناك تعارض بين الشريعة والقانون، يمكن تحقيق انسجام بينهما، أو على الأقل تجنب الصدام بينهما.
على سبيل المثال، يمكن للأحزاب ذات المرجعية الدينية أن تعمل ضمن النظام الديمقراطي لتحقيق الأهداف الشرعية باستخدام الوسائل السياسية المتاحة. كما أن الأحزاب الجمهورية في أمريكا، على سبيل المثال، التي تعارض الإجهاض، تفعل ذلك بناءً على خلفيات دينية.
ويُعرّف ابن خلدون الدولة بأنها "كائن حي له طبيعته الخاصة ويحكمها قانون السببية"، ويعتبر أن الدولة ضرورية للحضارة، حيث إن الدولة التي تحكمها الأهواء والشهوات هي دولة فوضوية تؤدي إلى انهيار المجتمعات.
في النهاية، لا يمكن اعتبار الدولة المدنية نقيضًا للدولة الإسلامية؛ فهي ليست ضد الدين، بل ضد الدولة العسكرية البوليسية.